مُقَدِّمَةُ الْكِتَاب
( بسم الله الرحمن الرحيم )
وَبِهِ الْعَوْنُ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ , الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ , مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ , الَّذِي خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ طِينٍ وَجَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ , ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَهُمْ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ وَبَعَثَ فِيهِمْ الرُّسُلَ وَالْأَئِمَّةَ مُبَشِّرِينَ بِالْجَنَّةِ مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمُنْذِرِينَ بِالنَّارِ مَنْ عَصَى اللَّهَ وَخَصَّنَا بِالنَّبِيِّ الْمُصْطَفَى , وَالرَّسُولِ الْمُجْتَبَى , أَبِي الْقَاسِمِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ صلى الله عليه وعلى آله , الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَاصْطَفَاهُمْ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَالْمُطَّلِبِ , أَرْسَلَهُ بِالْحَقِّ إلَى مَنْ جَعَلَهُ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ مِنْ كَافَّةِ الْخَلْقِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا وَأَنْزَلَ مَعَهُ كِتَابًا عَزِيزًا وَنُورًا مُبِينًا وَتَبْصِرَةً وَبَيَانًا وَحِكْمَةً وَبُرْهَانًا وَرَحْمَةً وَشِفَاءً وَمَوْعِظَةً وَذِكْرًا . فَنَقَلَ بِهِ مَنْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ بِتَوْفِيقِهِ مِنْ الْكُفْرِ وَالضَّلَالَةِ إلَى الرُّشْدِ , وَالْهِدَايَةِ وَبَيَّنَ فِيهِ مَا أَحَلَّ وَمَا حَرَّمَ وَمَا حَمِدَ وَمَا ذَمَّ وَمَا يَكُونُ عِبَادَةً وَمَا يَكُونُ مَعْصِيَةً نَصًّا أَوْ دَلَالَةً وَوَعَدَ وَأَوْعَدَ وَبَشَّرَ وَأَنْذَرَ وَوَضَعَ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ دِينِهِ مَوْضِعَ الْإِبَانَةِ عَنْهُ , وَحِينَ قَبَضَهُ اللَّهُ قَيَّضَ فِي أُمَّتِهِ جَمَاعَةً اجْتَهَدُوا فِي مَعْرِفَةِ كِتَابِهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى رَسَخُوا فِي الْعِلْمِ وَصَارُوا أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِهِ وَيُبَيِّنُونَ مَا يُشْكِلُ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنْ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ وَتَفْسِيرِهِ . وَقَدْ صَنَّفَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَمَعَانِيه وَإِعْرَابِهِ وَمَبَانِيه , وَذَكَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي أَحْكَامِهِ مَا بَلَغَهُ عِلْمُهُ وَرُبَّمَا يُوَافِقُ قَوْلُهُ قَوْلَنَا وَرُبَّمَا يُخَالِفُهُ , فَرَأَيْتُ مَنْ دَلَّتْ الدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدَ بْنَ إدْرِيسَ الشَّافِعِيِّ الْمُطَّلِبِيِّ ابْنَ عَمِّ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَلَى آلِهِ قَدْ أَتَى عَلَى بَيَانِ مَا يَجِبُ عَلَيْنَا مَعْرِفَتُهُ مِنْ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ وَكَانَ ذَلِكَ مُفَرَّقًا فِي كُتُبِهِ الْمُصَنَّفَةِ فِي الْأُصُولِ وَالْأَحْكَامِ , فَمَيَّزْتُهُ وَجَمَعْتُهُ فِي هَذِهِ الْأَجْزَاءِ عَلَى تَرْتِيبِ الْمُخْتَصَرِ , لِيَكُونَ طَلَبُ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى مَنْ أَرَادَ أَيْسَرَ وَاقْتَصَرَتْ فِي حِكَايَةِ كَلَامِهِ عَلَى مَا يَتَبَيَّنُ مِنْهُ الْمُرَادُ دُونَ الْإِطْنَابِ , وَنَقَلْتُ مِنْ كَلَامِهِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَاسْتِشْهَادِهِ بِالْآيَاتِ الَّتِي احْتَاجَ إلَيْهَا مِنْ الْكِتَابِ , عَلَى غَايَةِ الِاخْتِصَارِ مَا يَلِيقُ بِهَذَا الْكِتَابِ . وَأَنَا أَسْأَلُ اللَّهَ الْبَرَّ الرَّحِيمَ أَنْ يَنْفَعَنِي وَالنَّاظِرِينَ فِيهِ بِمَا أَوْدَعْتُهُ وَأَنْ يَجْزِيَنَا جَزَاءَ مَنْ اقْتَدَيْنَا بِهِ فِيمَا نَقَلْتُهُ , فَقَدْ بَالَغَ فِي الشَّرْحِ وَالْبَيَانِ , وَأَدَّى النَّصِيحَةَ فِي التَّقْدِيرِ وَالْبَيَانِ وَنَبَّهَ عَلَى جِهَةِ الصَّوَابِ وَالْبُرْهَانِ ; حَتَّى أَصْبَحَ مَنْ اقْتَدَى بِهِ عَلَى ثِقَةٍ مِنْ دِينِ رَبِّهِ وَيَقِينٍ مِنْ صِحَّةِ مَذْهَبِهِ , وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي شَرَحَ صَدْرَنَا لِلرَّشَادِ , وَوَفَّقَنَا لِصِحَّةِ هَذَا الِاعْتِقَادِ وَإِلَيْهِ الرَّغْبَةُ ( عَزَّتْ قُدْرَتُهُ ) فِي أَنْ يُجْرِي عَلَى أَيْدِينَا مُوجِبَ هَذَا الِاعْتِقَادِ وَمُقْتَضَاهُ , وَيُعِينَنَا عَلَى مَا فِيهِ إذْنُهُ وَرِضَاهُ وَإِلَيْهِ التَّضَرُّعُ فِي أَنْ يَتَغَمَّدَنَا بِرَحْمَتِهِ , وَيُنْجِيَنَا مِنْ عُقُوبَتِهِ , إنَّهُ الْغَفُورُ الْوَدُودُ , وَالْفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ .
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظِ أَخْبَرَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَسَّانُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَقِيهُ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْر أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدَةَ , قَالَ : كُنَّا نَسْمَعُ مِنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى تَفْسِيرَ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ , فَقَالَ لَنَا يُونُسُ : كُنْتُ أَوَّلًا أُجَالِسُ أَصْحَابَ التَّفْسِيرِ وَأُنَاظِرُ عَلَيْهِ وَكَانَ الشَّافِعِيُّ إذَا أَخَذَ فِي التَّفْسِيرِ كَأَنَّهُ شَهِدَ التَّنْزِيلَ .
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ أَخْبَرَنَا أَبُو الْوَلِيدِ الْفَقِيهُ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ حَمْدُونٌ قَالَ : سَمِعْتُ الرَّبِيعَ يَقُولُ : قَلَّمَا كُنْتُ أَدْخُلُ عَلَى الشَّافِعِيِّ رحمه الله إلَّا وَالْمُصْحَفُ بَيْنَ يَدَيْهِ يَتَتَبَّعُ أَحْكَامَ الْقُرْآنِ .
فَصْلٌ فِيمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ رحمه الله فِي التَّحْرِيضِ عَلَى تَعَلُّمِ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ .
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ رحمه الله أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ أَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ ; أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ رحمه الله فِي ذِكْرِ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْنَا بِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم بِمَا أَنْزَلَ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابِهِ , فَقَالَ : { وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } , فَنَقَلَهُمْ بِهِ مِنْ الْكُفْرِ وَالْعَمَى إلَى الضِّيَاءِ وَالْهُدَى وَبَيَّنَ فِيهِ مَا أَحَلَّ لَنَا بِالتَّوْسِعَةِ عَلَى خَلْقِهِ وَمَا حَرَّمَ لِمَا هُوَ أَعْلَمُ بِهِ [ مِنْ ] حَضِّهِمْ عَلَى الْكَفِّ عَنْهُ فِي الْآخِرَةِ وَالْأُولَى , وَابْتَلَى طَاعَتَهُمْ بِأَنْ تَعَبَّدَهُمْ بِقَوْلٍ وَعَمَلٍ , وَإِمْسَاكٍ عَنْ مَحَارِمَ وَحَمَاهُمُوهَا , وَأَثَابَهُمْ عَلَى طَاعَتِهِ مِنْ الْخُلُودِ فِي جَنَّتِهِ وَالنَّجَاةِ مِنْ نِقْمَتِهِ مَا عَظُمَتْ بِهِ نِعْمَتُهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ , وَأَعْلَمَهُمْ مَا أَوْجَبَ عَلَى أَهْلِ مَعْصِيَتِهِ مِنْ خِلَافِ مَا أَوْجَبَ لِأَهْلِ طَاعَتِهِ وَوَعَظَهُمْ بِالْإِخْبَارِ عَمَّنْ كَانَ قَبْلَهُمْ مِمَّنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْهُمْ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَأَطْوَلَ أَعْمَارًا , وَأَحْمَدَ آثَارًا , فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فِي حَيَاةِ دُنْيَاهُمْ , فَأَذَاقَهُمْ عِنْدَ نُزُولِ قَضَائِهِ مَنَايَاهُمْ دُونَ آمَالِهِمْ وَنَزَلَتْ بِهِمْ عُقُوبَتُهُ عِنْدَ انْقِضَاءِ آجَالِهِمْ ; لِيَعْتَبِرُوا فِي آنِفِ الْأَوَانِ , وَيَتَفَهَّمُوا بِجَلِيَّةِ التِّبْيَانِ , وَيَنْتَبِهُوا قَبْلَ رَيْنِ الْغَفْلَةِ وَيَعْمَلُوا قَبْلَ انْقِطَاعِ الْمُدَّةِ , حِينَ لَا يُعْتَبُ مُذْنِبٌ , وَلَا تُؤْخَذُ فِدْيَةٌ وَ { تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا } . وَكَانَ مِمَّا أَنْزَلَ فِي كِتَابِهِ ( جَلَّ ثَنَاؤُهُ ) رَحْمَةً وَحُجَّةً ; عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ . قَالَ : وَالنَّاسُ فِي الْعِلْمِ طَبَقَاتٌ , مَوْقِعُهُمْ مِنْ الْعِلْمِ بِقَدْرِ دَرَجَاتِهِمْ فِي الْعِلْمِ بِهِ , فَحَقَّ عَلَى طَلَبَةِ الْعِلْمِ بُلُوغُ غَايَةِ جُهْدِهِمْ فِي الِاسْتِكْثَارِ مِنْ عِلْمِهِ وَالصَّبْرُ عَلَى كُلِّ عَارِضٍ دُونَ طَلَبِهِ وَإِخْلَاصُ النِّيَّةِ لِلَّهِ فِي اسْتِدْرَاكِ عِلْمِهِ نَصًّا وَاسْتِنْبَاطًا وَالرَّغْبَةُ إلَى اللَّهِ فِي الْعَوْنِ عَلَيْهِ , فَإِنَّهُ لَا يُدْرَكُ خَيْرٌ إلَّا بِعَوْنِهِ , فَإِنَّ مَنْ أَدْرَكَ عِلْمَ أَحْكَامِ اللَّهِ فِي كِتَابِهِ نَصًّا وَاسْتِدْلَالًا , وَوَفَّقَهُ اللَّهُ لِلْقَوْلِ وَالْعَمَلِ لِمَا عَلِمَ مِنْهُ فَازَ بِالْفَضِيلَةِ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ وَانْتَفَتْ عَنْهُ الرِّيَبُ وَنَوَّرَتْ فِي قَلْبِهِ الْحِكْمَةُ , وَاسْتَوْجَبَ فِي الدِّينِ مَوْضِعَ الْإِمَامَةِ . فَنَسْأَلُ اللَّهَ الْمُبْتَدِئَ لَنَا بِنِعَمِهِ قَبْلَ اسْتِحْقَاقِهَا , الْمُدِيمَ بِهَا عَلَيْنَا مَعَ تَقْصِيرِنَا فِي الْإِتْيَانِ عَلَى مَا أَوْجَبَ مِنْ شُكْرِهِ لَهَا , الْجَاعِلَنَا فِي خَيْرِ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ أَنْ يَرْزُقَنَا فَهْمًا فِي كِتَابِهِ , ثُمَّ سُنَّةِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَوْلًا وَعَمَلًا يُؤَدِّي بِهِ عَنَّا حَقَّهُ , وَيُوجِبُ لَنَا نَافِلَةَ مَزِيدِهِ . فَلَيْسَتْ تَنْزِلُ بِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ دِينِ اللَّهِ نَازِلَةٌ إلَّا وَفِي كِتَابِ اللَّهِ الدَّلِيلُ عَلَى سُبُلِ الْهُدَى فِيهَا . قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ }
وَقَالَ تَعَالَى : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } .
وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَنْزَلْنَا إلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } .
قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله : وَمَنْ جِمَاعِ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الْعِلْمُ بِأَنَّ جَمِيعَ كِتَابِ اللَّهِ إنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِ الْعَرَبِ وَالْمَعْرِفَةُ بِنَاسِخِ كِتَابِ اللَّهِ وَمَنْسُوخِهِ وَالْفَرْضِ فِي تَنْزِيلِهِ , وَالْأَدَبِ وَالْإِرْشَادِ وَالْإِبَاحَةِ وَالْمَعْرِفَةُ بِالْوَضْعِ الَّذِي وَضَعَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْإِبَانَةِ عَنْهُ فِيمَا أَحْكَمَ فَرْضَهُ فِي كِتَابِهِ وَبَيَّنَهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَا أَرَادَ بِجَمِيعِ , فَرَائِضِهِ أَأَرَادَ كُلَّ خَلْقِهِ , أَمْ بَعْضَهُمْ دُونَ بَعْضٍ ؟ وَمَا افْتَرَضَ عَلَى النَّاسِ مِنْ طَاعَتِهِ وَالِانْتِهَاءِ إلَى أَمْرِهِ , ثُمَّ مَعْرِفَةُ مَا ضَرَبَ فِيهَا مِنْ الْأَمْثَالِ الدَّوَالِّ عَلَى طَاعَتِهِ , الْمُبِينَةِ لِاجْتِنَابِ مَعْصِيَتِهِ , وَتَرْكُ الْغَفْلَةِ عَنْ الْحَظِّ وَالِازْدِيَادُ مِنْ نَوَافِلِ الْفَضْلِ . فَالْوَاجِبُ عَلَى الْعَالَمِينَ أَلَّا يَقُولُوا إلَّا مِنْ حَيْثُ عَلِمُوا . ثُمَّ سَاقَ الْكَلَامَ إلَى أَنْ قَالَ : وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى أَنْ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ شَيْءٌ إلَّا بِلِسَانِ الْعَرَبِ . قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ } . وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا } .
وَقَالَ تَعَالَى : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا } . فَأَقَامَ حُجَّتَهُ بِأَنَّ كِتَابَهُ عَرَبِيٌّ , ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ بِأَنْ نَفَى عَنْهُ كُلَّ لِسَانٍ غَيْرَ لِسَانِ الْعَرَبِ , فِي آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِهِ , فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ }
وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ } . وَقَالَ : وَلَعَلَّ مَنْ قَالَ إنَّ فِي الْقُرْآنِ غَيْرَ لِسَانِ الْعَرَبِ ذَهَبَ إلَى أَنَّ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ خَاصًّا يَجْهَلُهُ بَعْضُ الْعَرَبِ . وَلِسَانُ الْعَرَبِ أَوْسَعُ الْأَلْسِنَةِ مَذْهَبًا , وَأَكْثَرُهَا أَلْفَاظًا , وَلَا يُحِيطُ بِجَمِيعِ عِلْمِهِ إنْسَانٌ غَيْرُ نَبِيٍّ . وَلَكِنَّهُ لَا يَذْهَبُ مِنْهُ شَيْءٌ عَلَى عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ , كَالْعِلْمِ بِالسُّنَّةِ عِنْدَ أَهْلِ الْفِقْهِ لَا نَعْلَمُ رَجُلًا جَمَعَهَا , فَلَمْ يَذْهَبْ مِنْهَا شَيْءٌ عَلَيْهِ فَإِذَا جُمِعَ عِلْمُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِهَا أُتِيَ عَلَى السُّنَنِ . وَاَلَّذِي يَنْطِقُ الْعَجَمَ بِالشَّيْءِ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ , فَلَا يُنْكَرُ إذَا كَانَ اللَّفْظُ قِيلَ تَعَلُّمًا , أَوْ نُطِقَ بِهِ مَوْضُوعًا أَنْ يُوَافِقَ لِسَانَ الْعَجَمِ أَوْ بَعْضَهُ قَلِيلٌ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ فَبَسَطَ الْكَلَامَ فِيهِ .
فَصْلٌ فِي مَعْرِفَةِ الْخُصُوصِ وَالْعُمُوم
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَنَا الرَّبِيعُ قَالَ :
قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله : قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ تَعَالَى : { خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } .
وَقَالَ تَعَالَى : { خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ } .
وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا } الْآيَةَ . فَهَذَا عَامٌّ لَا خَاصَّ فِيهِ , فَكُلُّ شَيْءٍ مِنْ سَمَاءٍ وَأَرْضٍ وَذِي رُوحٍ , وَشَجَرٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَاَللَّهُ خَالِقُهُ . وَكُلُّ دَابَّةٍ فَعَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ : { إنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } .
وَقَالَ تَعَالَى : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } الْآيَةُ ,
وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا } .
قَالَ الشَّافِعِيُّ : فَبَيَّنَ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَنَّ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ الْعُمُومَ وَالْخُصُوصَ فَأَمَّا الْعُمُومُ مِنْهَا , فَفِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : { إنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا } فَكُلُّ نَفْسٍ خُوطِبَ بِهَذَا فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَبْلَهُ وَبَعْدَهُ مَخْلُوقَةٌ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَكُلُّهَا شُعُوبٌ وَقَبَائِلُ . وَالْخَاصُّ مِنْهَا فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : { إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } لِأَنَّ التَّقْوَى إنَّمَا تَكُونُ عَلَى مَنْ عَقَلَهَا وَكَانَ مِنْ أَهْلِهَا مِنْ الْبَالِغِينَ مِنْ بَنِي آدَمَ دُونَ الْمَخْلُوقِينَ مِنْ الدَّوَابِّ سِوَاهُمْ وَدُونَ الْمَغْلُوبِ عَلَى عُقُولِهِمْ مِنْهُمْ , وَالْأَطْفَالُ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا عَقْلَ التَّقْوَى مِنْهُمْ . فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ بِالتَّقْوَى وَخِلَافِهَا إلَّا مَنْ عَقَلَهَا وَكَانَ مِنْ أَهْلِهَا , أَوْ خَالَفَهَا , فَكَانَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا . وَفِي السُّنَّةِ دَلَالَةٌ عَلَيْهِ ; قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ , وَالصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ , وَالْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ . }
قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله : وَهَكَذَا التَّنْزِيلُ فِي الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ عَلَى الْبَالِغِينَ الْعَاقِلِينَ دُونَ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ مِمَّنْ غُلِبَ عَلَى عَقْلِهِ وَدُونَ الْحَيْضِ فِي أَيَّامِ حَيْضِهِنَّ .
قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } الْآيَةُ .
قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله فَإِذَا كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَاسٌ غَيْرُ مَنْ جَمَعَ لَهُمْ مِنْ النَّاسِ , وَكَانَ الْمُخْبِرُونَ لَهُمْ نَاسًا غَيْرَ مَنْ جَمَعَ لَهُمْ وَغَيْرَ مَنْ مَعَهُ مِمَّنْ جُمِعَ عَلَيْهِ مَعَهُ وَكَانَ الْجَامِعُونَ لَهُمْ نَاسًا فَالدَّلَالَةُ بَيِّنَةٌ . لِمَا وَصَفَتْ مِنْ أَنَّهُ إنَّمَا جَمَعَ لَهُمْ بَعْضُ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ , وَالْعِلْمُ يُحِيطُ أَنْ لَمْ يَجْمَعْ لَهُمْ النَّاسُ كُلُّهُمْ وَلَمْ يُخْبِرْهُمْ النَّاسُ كُلُّهُمْ وَلَمْ يَكُونُوا هُمْ النَّاسَ كُلَّهُمْ . وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ اسْمُ النَّاسِ يَقَعُ عَلَى ثَلَاثَةِ نَفَرٍ وَعَلَى جَمِيعِ النَّاسِ وَعَلَى مَنْ بَيْنَ جَمِيعِهِمْ وَثَلَاثَةٍ مِنْهُمْ كَانَ صَحِيحًا فِي لِسَانِ الْعَرَبِ , أَنْ يُقَالَ : ( قَالَ لَهُمْ النَّاسُ ) . قَالَ : وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِينَ قَالُوا لَهُمْ ذَلِكَ أَرْبَعَةُ نَفَرٍ ; إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ , يَعْنُونَ الْمُنْصَرِفِينَ مِنْ أُحُدٍ وَإِنَّمَا هُمْ جَمَاعَةٌ غَيْرُ كَثِيرِينَ مِنْ النَّاسِ , جَامِعُونَ مِنْهُمْ غَيْرَ الْمَجْمُوعِ لَهُمْ وَالْمُخْبِرُونَ لِلْمَجْمُوعِ لَهُمْ غَيْرُ الطَّائِفَتَيْنِ , وَالْأَكْثَرُونَ مِنْ النَّاسِ فِي بُلْدَانِهِمْ غَيْرُ الْجَامِعِينَ وَالْمَجْمُوعُ لَهُمْ وَلَا الْمُخْبِرِينَ . وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } , فَدَلَّ كِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا وَقُودُهَا بَعْضُ النَّاسِ ; لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : { إنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ } .
قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله : قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ } وَذَكَرَ سَائِرَ الْآيَاتِ . ثُمَّ قَالَ : فَأَبَانَ أَنَّ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَزْوَاجِ مِمَّا سُمِّيَ فِي الْحَالَاتِ , وَكَانَ عَامَّ الْمَخْرَجِ . فَدَلَّتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا أُرِيدَ بِهَا بَعْضُ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَزْوَاجِ دُونَ بَعْضٍ , وَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ دِينُ الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِ وَالزَّوْجَيْنِ وَاحِدًا , وَلَا يَكُونُ الْوَارِثُ مِنْهُمَا قَاتِلًا وَلَا مَمْلُوكًا .
وَقَالَ تَعَالَى : { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ } الْآيَةُ . فَأَبَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الْوَصَايَا يُقْتَصَرُ بِهَا عَلَى الثُّلُثِ وَلِأَهْلِ الْمِيرَاثِ الثُّلُثَانِ وَأَبَانَ أَنَّ الدَّيْنَ قَبْلَ الْوَصَايَا وَالْمِيرَاثِ وَأَنْ لَا وَصِيَّةَ وَلَا مِيرَاثَ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ أَهْلُ الدَّيْنِ دَيْنَهُمْ . وَلَوْلَا دَلَالَةُ السُّنَّةِ ثُمَّ إجْمَاعُ النَّاسِ لَمْ يَكُنْ مِيرَاثٌ إلَّا بَعْدَ وَصِيَّةٍ أَوْ دَيْنٍ وَلَمْ تَعْدُو الْوَصِيَّةُ أَنْ تَكُونَ مُقَدَّمَةً عَلَى الدَّيْنِ , أَوْ تَكُونَ وَالدَّيْنُ سَوَاءً , وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْآيَةِ آيَةَ الْوُضُوءِ وَوُرُودَ السُّنَّةِ بِالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَآيَةَ السَّرِقَةِ وَوُرُودَ السُّنَّةِ بِأَنْ لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ ; لِكَوْنِهِمَا غَيْرَ مُحْرَزَيْنِ وَأَنْ لَا يُقْطَعَ إلَّا مَنْ بَلَغَتْ سَرِقَتُهُ رُبْعَ دِينَارٍ . وَآيَةَ الْجَلْدِ الزَّانِي وَالزَّانِيَةُ وَبَيَانَ السُّنَّةِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْبِكْرَانِ دُونَ الثَّيِّبَيْنِ , وَآيَةَ سَهْمِ ذِي الْقُرْبَى وَبَيَانَ السُّنَّةِ بِأَنَّهُ لِبَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ دُونَ سَائِرِ الْقُرْبَى وَآيَةَ الْغَنِيمَةِ وَبَيَانَ السُّنَّةِ بِأَنَّ السَّلَبَ مِنْهَا لِلْقَاتِلِ . وَكُلُّ ذَلِكَ تَخْصِيصٌ لِلْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ , وَلَوْلَا الِاسْتِدْلَال بِالسُّنَّةِ كَانَ الطُّهْرُ فِي الْقَدَمَيْنِ وَإِنْ كَانَ لَابِسًا لِلْخُفَّيْنِ , وَقَطَعْنَا كُلَّ مَنْ لَزِمَهُ اسْمُ سَارِقٍ , وَضَرَبْنَا مِائَةً كُلَّ مَنْ زَنَى وَإِنْ كَانَ ثَيِّبًا , وَأَعْطَيْنَا سَهْمَ ذِي الْقُرْبَى مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَرَابَةٌ وَخَمَّسْنَا السَّلَبَ لِأَنَّهُ مِنْ الْغَنِيمَةِ .
فَصْلٌ فِي فَرْضِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ , أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَنَا الرَّبِيعُ , قَالَ
قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تَعَالَى : وَضَعَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ دِينِهِ وَفَرْضِهِ وَكِتَابِهِ الْمَوْضِعَ الَّذِي أَبَانَ ( جَلَّ ثَنَاؤُهُ ) أَنَّهُ جَعَلَهُ عَلَمًا لِدِينِهِ بِمَا افْتَرَضَ مِنْ طَاعَتِهِ وَحَرَّمَ مِنْ مَعْصِيَتِهِ وَأَبَانَ , فَضِيلَتَهُ بِمَا قَرَّرَ مِنْ الْإِيمَانِ بِرَسُولِهِ مَعَ الْإِيمَانِ بِهِ . فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { آمِنُوا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ }
وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ } . فَجَعَلَ دَلِيلَ ابْتِدَاءِ الْإِيمَانِ الَّذِي مَا سِوَاهُ تَبَعٌ لَهُ الْإِيمَانَ بِاَللَّهِ , ثُمَّ بِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فَلَوْ آمَنَ بِهِ عَبْدٌ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ اسْمُ كَمَالِ الْإِيمَانِ أَبَدًا , حَتَّى يُؤْمِنَ بِرَسُولِهِ عليه السلام مَعَهُ .
قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله : وَفَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى النَّاسِ اتِّبَاعَ وَحْيِهِ وَسُنَنَ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم , فَقَالَ فِي كِتَابِهِ : { رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } .
وَقَالَ تَعَالَى : { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ }
وَقَالَ تَعَالَى : { وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ } وَذَكَرَ غَيْرَهَا مِنْ الْآيَاتِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي مَعْنَاهَا . قَالَ : فَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْكِتَابَ , وَهُوَ الْقُرْآنُ , وَذَكَرَ الْحِكْمَةَ , فَسَمِعْتُ مَنْ أَرْضَى مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْقُرْآنِ يَقُولُ : الْحِكْمَةُ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهَذَا يُشْبِهُ مَا قَالَ ( وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) بِأَنَّ الْقُرْآنَ ذُكِرَ وَأَتْبَعَتْهُ الْحِكْمَةُ , وَذَكَرَ اللَّهُ ( عَزَّ وَجَلَّ ) مِنَّتَهُ عَلَى خَلْقِهِ بِتَعْلِيمِهِمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ . فَلَمْ يَجُزْ ( وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) أَنْ تُعَدَّ الْحِكْمَةُ هَا هُنَا إلَّا سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَذَلِكَ أَنَّهَا مَقْرُونَةٌ مَعَ كِتَابِ اللَّهِ , وَأَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ طَاعَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَحَتَّمَ عَلَى النَّاسِ اتِّبَاعَ أَمْرِهِ . فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لِقَوْلٍ فَرْضٌ إلَّا لِكِتَابِ اللَّهِ , ثُمَّ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُبَيِّنَةً عَنْ اللَّهِ مَا أَرَادَ دَلِيلًا عَلَى خَاصِّهِ وَعَامِّهِ ; ثُمَّ قَرَنَ الْحِكْمَةَ بِكِتَابِهِ فَأَتْبَعَهَا إيَّاهُ وَلَمْ يَجْعَلْ هَذَا لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ غَيْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم . ثُمَّ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله الْآيَاتِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي فَرْضِ اللَّهِ ( عَزَّ وَجَلَّ ) طَاعَةَ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم . مِنْهَا : قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } , فَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أُولُو الْأَمْرِ أُمَرَاءُ سَرَايَا رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم , وَهَكَذَا أَخْبَرَنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَهُوَ يُشْبِهُ مَا قَالَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ مَنْ كَانَ حَوْلَ مَكَّةَ مِنْ الْعَرَبِ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ إمَارَةً , وَكَانَتْ تَأْنَفُ أَنْ تُعْطِيَ بَعْضُهَا بَعْضًا طَاعَةَ الْإِمَارَةِ ; فَلَمَّا دَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالطَّاعَةِ , لَمْ تَكُنْ تَرَى ذَلِكَ يَصْلُحُ لِغَيْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأُمِرُوا أَنْ يُطِيعُوا أُولِي الْأَمْرِ الَّذِينَ أَمَّرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا طَاعَةً مُطْلَقَةً , بَلْ طَاعَةٌ يُسْتَثْنَى فِيهَا لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ . قَالَ تَعَالَى : { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ } يَعْنِي إنْ اخْتَلَفْتُمْ فِي شَيْءٍ وَهَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ , كَمَا قَالَ فِي أُولِي الْأَمْرِ . لِأَنَّهُ يَقُولُ : { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ } يَعْنِي ( وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) هُمْ وَأُمَرَاؤُهُمْ الَّذِينَ أُمِرُوا بِطَاعَتِهِمْ . { فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } يَعْنِي ( وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) إلَى مَا قَالَ اللَّهُ وَالرَّسُولُ إنْ عَرَفْتُمُوهُ , وَإِنْ لَمْ تَعْرِفُوهُ سَأَلْتُمْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْهُ إذَا وَصَلْتُمْ إلَيْهِ , أَوْ مَنْ وَصَلَ إلَيْهِ . لِأَنَّ ذَلِكَ الْفَرْضَ الَّذِي لَا مُنَازَعَةَ لَكُمْ فِيهِ لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } . وَمَنْ تَنَازَعَ مِمَّنْ بَعُدَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَدَّ الْأَمْرَ إلَى قَضَاءِ اللَّهِ ; ثُمَّ إلَى قَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيمَا تَنَازَعُوا فِيهِ قَضَاءٌ نَصًّا فِيهِمَا وَلَا فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَدُّوهُ قِيَاسًا عَلَى أَحَدِهِمَا .
وَقَالَ تَعَالَى : { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } الْآيَةُ .
قَالَ الشَّافِعِيُّ : نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيمَا بَلَغَنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ فِي رَجُلٍ خَاصَمَ الزُّبَيْرَ رضي الله عنه فِي أَرْضٍ , فَقَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِهَا لِلزُّبَيْرِ رضي الله عنه وَهَذَا الْقَضَاءُ سُنَّةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا حُكْمٌ مَنْصُوصٌ فِي الْقُرْآنِ . وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ : { وَإِذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ } وَالْآيَاتُ بَعْدَهَا . فَأَعْلَمَ اللَّهُ النَّاسَ أَنَّ دُعَاءَهُمْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ دُعَاءٌ إلَى حُكْمِ اللَّهِ وَإِذَا سَلَّمُوا لِحُكْمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّمَا سَلَّمُوا لِفَرْضٍ اللَّهِ وَبَسَطَ الْكَلَامَ فِيهِ .
قَالَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه : وَشَهِدَ لَهُ ( جَلَّ ثَنَاؤُهُ ) بِاسْتِمْسَاكِهِ بِأَمْرِهِ بِهِ وَالْهُدَى فِي نَفْسِهِ وَهِدَايَةِ مَنْ اتَّبَعَهُ . فَقَالَ : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْت تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ } وَذَكَرَ مَعَهَا غَيْرَهَا ثُمَّ قَالَ فِي شَهَادَتِهِ لَهُ إنَّهُ يَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ . وَفِيمَا وَصَفْتُ مِنْ فَرْضِ طَاعَتِهِ مَا أَقَامَ اللَّهُ بِهِ الْحُجَّةَ عَلَى خَلْقِهِ بِالتَّسْلِيمِ لِحُكْمِ رَسُولِهِ وَاتِّبَاعِ أَمْرِهِ , فَمَا سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا لَيْسَ لِلَّهِ فِيهِ حُكْمٌ فَحُكْمُ اللَّهِ سُنَّتُهُ . ثُمَّ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله الِاسْتِدْلَالَ بِسُنَّتِهِ عَلَى النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ; ثُمَّ ذَكَرَ الْفَرَائِضَ الْمَنْصُوصَةَ الَّتِي بَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَهَا , ثُمَّ ذَكَرَ الْفَرَائِضَ الْجُمَلَ الَّتِي أَبَان رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ كَيْفَ هِيَ وَمَوَاقِيتُهَا ; ثُمَّ ذَكَرَ الْعَامَّ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ الَّذِي أَرَادَ بِهِ الْعَامَّ وَالْعَامَّ الَّذِي أَرَادَ بِهِ الْخَاصَّ ; ثُمَّ ذَكَرَ سُنَّتَهُ فِيمَا لَيْسَ فِيهِ نَصُّ كِتَابٍ . وَإِيرَادُ جَمِيعِ ذَلِكَ هَا هُنَا مِمَّا يَطُولُ بِهِ الْكِتَابُ , وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ إشَارَةٌ إلَى مَا لَمْ نَذْكُرْهُ .
فَصْلٌ فِي تَثْبِيتِ خَبَرِ الْوَاحِدِ مِنْ الْكِتَابِ
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ أَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ :
قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله : وَفِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ دَلَالَةٌ عَلَى مَا وَصَفْتُ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { إنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إلَى قَوْمِهِ } .
وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إلَى قَوْمِهِ } وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ : { وَأَوْحَيْنَا إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ }
وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا } .
وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا } .
وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا } . وَقَالَ جَلَّ وَعَزَّ : { كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ إذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ إنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ } وَقَالَ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم : { إنَّا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ }
وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا مُحَمَّدٌ إلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ } .
قَالَ الشَّافِعِيُّ : فَأَقَامَ ( جَلَّ ثَنَاؤُهُ ) حُجَّتَهُ عَلَى خَلْقِهِ فِي أَنْبِيَائِهِ بِالْأَعْلَامِ الَّتِي بَايَنُوا بِهَا خَلْقَهُ سِوَاهُمْ , وَكَانَتْ الْحُجَّةُ عَلَى مَنْ شَاهَدَ أُمُورَ الْأَنْبِيَاءِ دَلَائِلُهُمْ الَّتِي بَايَنُوا بِهَا غَيْرَهُمْ وَعَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ وَكَانَ الْوَاحِدُ فِي ذَلِكَ وَأَكْثَرُ مِنْهُ سَوَاءً تَقُومُ الْحُجَّةُ بِالْوَاحِدِ مِنْهُمْ قِيَامَهَا بِالْأَكْثَرِ . قَالَ تَعَالَى : { وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ إذْ أَرْسَلْنَا إلَيْهِمْ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إنَّا إلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ } . قَالَ : فَظَاهِرُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِاثْنَيْنِ , ثُمَّ ثَالِثٍ وَكَذَا أَقَامَ الْحُجَّةَ عَلَى الْأُمَمِ بِوَاحِدٍ , وَلَيْسَ الزِّيَادَةُ فِي التَّأْكِيدِ مَانِعَةً مِنْ أَنْ تَقُومَ الْحُجَّةُ بِالْوَاحِدِ إذَا أَعْطَاهُ اللَّهُ مَا يُبَايِنُ بِهِ الْخَلْقَ غَيْرَ النَّبِيِّينَ . وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِالْآيَاتِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي الْقُرْآنِ فِي فَرْضِ اللَّهِ طَاعَةَ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ بَعْدِهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَاحِدًا وَاحِدًا , فِي أَنَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ طَاعَتَهُ , وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ غَابَ عَنْ رُؤْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعْلَمُ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم وَشَرَّفَ وَكَرَّمَ ) إلَّا بِالْخَبَرِ عَنْهُ وَبَسَطَ الْكَلَامَ فِيهِ .
فَصْلٌ فِي النَّسْخِ
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَنَا الرَّبِيعُ قَالَ :
قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله : إنَّ اللَّهَ خَلَقَ النَّاسَ لِمَا سَبَقَ فِي عِلْمِهِ مِمَّا أَرَادَ بِخَلْقِهِمْ وَبِهِمْ , { لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } وَأَنْزَلَ الْكِتَابَ ( عَلَيْهِمْ ) { تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } [ وَ ] فَرَضَ [ فِيهِ ] فَرَائِضَ أَثْبَتَهَا وَأُخْرَى نَسَخَهَا , رَحْمَةً لِخَلْقِهِ بِالتَّخْفِيفِ عَنْهُمْ وَبِالتَّوْسِعَةِ عَلَيْهِمْ . زِيَادَةً فِيمَا ابْتَدَأَهُمْ بِهِ مِنْ نِعَمِهِ , وَأَثَابَهُمْ عَلَى الِانْتِهَاءِ إلَى مَا أَثْبَتَ عَلَيْهِمْ : جَنَّتَهُ وَالنَّجَاةَ مِنْ عَذَابِهِ فَعَمَّتْهُمْ رَحْمَتُهُ فِيمَا أَثْبَتَ وَنَسَخَ , فَلَهُ الْحَمْدُ عَلَى نِعَمِهِ . وَأَبَانَ اللَّهُ لَهُمْ أَنَّهُ إنَّمَا نَسَخَ مَا نَسَخَ مِنْ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ وَأَنَّ السُّنَّةَ [ لَا نَاسِخَةً لِلْكِتَابِ ] وَإِنَّمَا هِيَ تَبَعٌ لِلْكِتَابِ بِمِثْلِ مَا نَزَلَ نَصًّا وَمُفَسِّرَةً مَعْنَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْهُ جَمْلًا . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إنْ أَتَّبِعُ إلَّا مَا يُوحَى إلَيَّ إنِّي أَخَافُ إنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } فَأَخْبَرَ اللَّهُ ( عَزَّ وَجَلَّ ) أَنَّهُ فَرَضَ عَلَى نَبِيِّهِ اتِّبَاعَ مَا يُوحَى إلَيْهِ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ تَبْدِيلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ وَفِي [ قَوْلِهِ ] : { مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي } بَيَانُ مَا وَصَفْتُ مِنْ أَنَّهُ لَا يَنْسَخُ كِتَابَ اللَّهِ إلَّا كِتَابُهُ , كَمَا كَانَ الْمُبْتَدِئُ لِفَرْضِهِ فَهُوَ الْمُزِيلُ الْمُثَبِّتُ لِمَا شَاءَ مِنْهُ ( جَلَّ ثَنَاؤُهُ ) , وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ لِذَلِكَ قَالَ : { يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ } قِيلَ يَمْحُو فَرْضَ مَا يَشَاءُ [ وَيُثْبِتُ فَرْضَ مَا يَشَاءُ ] وَهَذَا يُشْبِهُ مَا قِيلَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَفِي كِتَابِ اللَّهِ دَلَالَةٌ عَلَيْهِ : قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } . فَأَخْبَرَ اللَّهُ ( عَزَّ وَجَلَّ ) أَنَّ نَسْخَ الْقُرْآنِ وَتَأْخِيرَ إنْزَالِهِ لَا يَكُونُ إلَّا بِقُرْآنٍ مِثْلِهِ . وَقَالَ : { وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ } وَهَكَذَا سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : لَا يَنْسَخُهَا إلَّا سُنَّةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبَسَطَ الْكَلَامَ فِيهِ
قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي قوله تعالى : { قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي } وَاَللَّهُ أَعْلَمُ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَقُولَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ بِتَوْفِيقِهِ فِيمَا لَمْ يُنْزِلْ بِهِ كِتَابًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ , نَا أَبُو الْعَبَّاسِ هُوَ الْأَصَمُّ : أَنَا الرَّبِيعُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ رحمه الله قَالَ : قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي الصَّلَاةِ : { إنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا } { , فَبَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ تِلْكَ الْمَوَاقِيتَ , وَصَلَّى الصَّلَوَاتِ لِوَقْتِهَا , فَحُوصِرَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ , فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا , فَأَخَّرَهَا لِلْعُذْرِ حَتَّى صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ فِي مَقَامٍ وَاحِدٍ . }
قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله : أَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ , عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ , عَنْ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : { حُبِسْنَا يَوْمَ الْخَنْدَقِ عَنْ الصَّلَاةِ حَتَّى كَانَ بَعْدَ الْمَغْرِبِ بِهَوِيٍّ مِنْ اللَّيْلِ حَتَّى كُفِينَا وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : { وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ } قَالَ : فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِلَالًا , فَأَمَرَهُ , فَأَقَامَ الظُّهْرَ , فَصَلَّاهَا , فَأَحْسَنَ صَلَاتَهَا , كَمَا كَانَ يُصَلِّيهَا فِي وَقْتِهَا ; ثُمَّ أَقَامَ الْعَصْرَ , فَصَلَّاهَا هَكَذَا ; ثُمَّ أَقَامَ الْمَغْرِبَ , فَصَلَّاهَا كَذَلِكَ ; ثُمَّ أَقَامَ الْعِشَاءَ , فَصَلَّاهَا كَذَلِكَ أَيْضًا وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ اللَّهُ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ : { فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا } }
قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله : فَبَيَّنَ أَبُو سَعِيدٍ أَنَّ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُنْزِلَ [ اللَّهُ ] عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْآيَةَ الَّتِي ذُكِرَتْ فِيهَا صَلَاةُ الْخَوْفِ [ وَهِيَ ] قَوْل اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلَاةِ إنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا } الْآيَةُ
وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمْ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ } الْآيَةُ . وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله حَدِيثَ صَالِحِ بْنِ خَوَّاتٍ عَمَّنْ صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الْخَوْفِ [ يَوْمَ ذَاتِ الرِّقَاعِ ] . ثُمَّ قَالَ : وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى مَا وَصَفْتُ مِنْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا سَنَّ سُنَّةً , فَأَحْدَثَ اللَّهُ فِي تِلْكَ السُّنَّةِ نَسْخَهَا أَوْ مَخْرَجًا إلَى سَعَةٍ مِنْهَا سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُنَّةً تَقُومُ الْحُجَّةُ عَلَى النَّاسِ بِهَا حَتَّى يَكُونُوا إنَّمَا صَارُوا مِنْ سُنَّتِهِ إلَى سُنَّتِهِ الَّتِي بَعْدَهَا . قَالَ : فَنَسَخَ اللَّهُ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا فِي الْخَوْفِ إلَى أَنْ يُصَلُّوهَا كَمَا أَمَرَ اللَّهُ [ فِي وَقْتِهَا ] وَنَسَخَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُنَّتَهُ فِي تَأْخِيرِهَا بِفَرْضِ اللَّهِ فِي كِتَابِهِ , ثُمَّ بِسُنَّتِهِ , فَصَلَّاهَا فِي وَقْتِهَا , كَمَا وَصَفْنَا .
قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله : أَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ , عَنْ ابْنِ عُمَرَ { أَرَاهُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ صَلَاةَ الْخَوْفِ , فَقَالَ : إنْ كَانَ خَوْفًا أَشَدَّ مِنْ ذَلِكَ صَلُّوا رِجَالًا وَرُكْبَانًا , مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةَ وَغَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا } قَالَ فَدَلَّتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَا وَصَفْتُ مِنْ أَنَّ الْقِبْلَةَ فِي الْمَكْتُوبَةِ عَلَى فَرْضِهَا أَبَدًا , إلَّا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ فِيهِ الصَّلَاةُ إلَيْهَا وَذَلِكَ عِنْدَ الْمُسَايَفَةِ وَالْهَرَبِ , وَمَا كَانَ فِي الْمَعْنَى الَّذِي لَا يُمْكِنُ فِيهِ الصَّلَاةُ [ إلَيْهَا ] وَبَيَّنَتْ السُّنَّةُ فِي هَذَا أَنْ لَا تُتْرَكَ [ الصَّلَاةُ ] فِي وَقْتِهَا كَيْفَ مَا أَمْكَنَتْ الْمُصَلِّي .
فَصْلٌ فِي إبْطَالِ الِاسْتِحْسَانِ
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدِ بْنُ أَبِي عَمْرٍو أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ أَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ أَنَا الشَّافِعِيُّ ( رحمه الله ) قَالَ : حُكْمُ اللَّهِ , ثُمَّ حُكْمُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ حُكْمُ الْمُسْلِمِينَ دَلِيلٌ عَلَى أَنْ لَا يَجُوزَ لِمَنْ اسْتَأْهَلَ أَنْ يَكُونَ حَاكِمًا أَوْ مُفْتِيًا أَنْ يَحْكُمَ وَلَا أَنْ يُفْتِيَ إلَّا مِنْ جِهَةِ خَبَرٍ لَازِمٍ وَذَلِكَ الْكِتَابُ , ثُمَّ السُّنَّةُ أَوْ مَا قَالَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ , أَوْ قِيَاسٌ عَلَى بَعْضِ هَذَا . وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ وَلَا يُفْتِيَ بِالِاسْتِحْسَانِ ; إذَا لَمْ يَكُنْ الِاسْتِحْسَانُ وَاجِبًا وَلَا فِي وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي . وَذَكَرَ فِيمَا احْتَجَّ بِهِ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : { أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى } [ قَالَ ] فَلَمْ يَخْتَلِفْ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْقُرْآنِ فِيمَا عَلِمْتُ أَنَّ ( السُّدَى ) الَّذِي لَا يُؤْمَرُ وَلَا يُنْهَى . وَمَنْ أَفْتَى أَوْ حَكَمَ بِمَا لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ , فَقَدْ اخْتَارَ لِنَفْسِهِ أَنْ يَكُونَ فِي مَعَانِي السُّدَى وَقَدْ أَعْلَمَهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ لَمْ يُتْرَكْ سُدًى وَرَأَى أَنْ قَالَ أَقُولُ مَا شِئْتُ , وَادَّعَى مَا نَزَلَ الْقُرْآنُ بِخِلَافِهِ . قَالَ اللَّهُ ( جَلَّ ثَنَاؤُهُ ) لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم : { اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ } ,
وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إلَيْكَ } , ثُمَّ { جَاءَهُ قَوْمٌ , فَسَأَلُوهُ عَنْ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَغَيْرِهِمْ : فَقَالَ أُعْلِمُكُمْ غَدًا يَعْنِي أَسْأَلُ جِبْرِيلَ عليه السلام , ثُمَّ أُعْلِمُكُمْ , فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } } . { وَجَاءَتْهُ امْرَأَةُ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ تَشْكُو إلَيْهِ أَوْسًا , فَلَمْ يُجِبْهَا حَتَّى نَزَلَ عَلَيْهِ : } { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا } { وَجَاءَهُ الْعَجْلَانِيُّ يَقْذِفُ امْرَأَتَهُ , فَقَالَ : لَمْ يُنْزَلْ فِيكُمَا وَانْتَظِرَا الْوَحْيَ , فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ : دَعَاهُمَا , وَلَاعَنَ بَيْنَهُمَا , كَمَا أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ } وَبَسَطَ الْكَلَامَ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْمَعْقُولِ , فِي رَدِّ الْحُكْمِ بِمَا اسْتَحْسَنَهُ الْإِنْسَانُ دُونَ الْقِيَاسِ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ .
فَصْلٌ فِيمَا يُؤْثَرُ عَنْهُ مِنَ التَّفْسِير وَالْمَعَانِي في آياتٍ مُتَفَرِّقة
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَنَا الرَّبِيعُ أَنَا الشَّافِعِيُّ قَالَ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم : { قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ } ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ ( عَزَّ وَجَلَّ ) عَلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ يَعْنِي : وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ قَبْلَ الْوَحْيِ وَمَا تَأَخَّرَ أَنْ يَعْصِمَهُ , فَلَا يُذْنِبُ , يَعْلَمُ [ اللَّهُ ] مَا يُفْعَلُ بِهِ مِنْ رِضَاهُ عَنْهُ وَأَنَّهُ أَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَسَيِّدُ الْخَلَائِقِ . وَسَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدَ بْنَ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدَانَ الْكَرْمَانِيَّ , يَقُولُ : سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي إسْمَاعِيلَ الْعَلَوِيَّ بِبُخَارَاءَ , يَقُولُ : سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ حَسَّانَ الْمِصْرِيَّ بِمَكَّةَ يَقُولُ : سَمِعْتُ الْمُزَنِيّ يَقُولُ : سُئِلَ الشَّافِعِيُّ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : { إنَّا فَتَحْنَا لَك فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِك وَمَا تَأَخَّرَ } قَالَ : مَعْنَاهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِ أَبِيكَ آدَمَ وَهَبْتُهُ لَكَ وَمَا تَأَخَّرَ مِنْ ذُنُوبِ أُمَّتِكَ أُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ بِشَفَاعَتِكَ . قَالَ الشَّيْخُ رحمه الله : وَهَذَا قَوْلٌ مُسْتَظْرَفٌ وَاَلَّذِي وَضَعَهُ الشَّافِعِيُّ فِي تَصْنِيفِهِ أَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ وَأَشْبَهُ بِظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ أَحْمَدَ بْنَ مُحَمَّدٍ الْمُتَكَلِّمَ , يَقُولُ : سَمِعْتُ جَعْفَرَ بْنَ أَحْمَدَ السَّامَاقِيَّ يَقُولُ : سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ , يَقُولُ : سَأَلْتُ الشَّافِعِيَّ أَيُّ آيَةٍ أَرْجَى ؟ قَالَ : قوله تعالى { يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكَيْنَا ذَا مَتْرَبَةٍ } .
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الْمُتَكَلِّمُ أَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ الْبُسْتِيُّ , حَدَّثَنِي إبْرَاهِيمُ بْنُ حَرْبٍ الْبَغْدَادِيُّ : أَنَّ الشَّافِعِيَّ رحمه الله سُئِلَ بِمَكَّةَ فِي الطَّوَافِ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : { إنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُك } قَالَ : إنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ وَتُؤَخِّرْ فِي آجَالِهِمْ فَتَمُنُّ عَلَيْهِمْ بِالتَّوْبَةِ وَالْمَغْفِرَةِ .
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ السُّلَمِيُّ , قَالَ : سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَاذَانَ , يَقُولُ : سَمِعْتُ جَعْفَرَ بْنَ أَحْمَدَ الْخَلَّاطِيَّ , يَقُولُ : سَمِعْتُ الرَّبِيعَ بْنَ سُلَيْمَانَ يَقُولُ : سُئِلَ الشَّافِعِيُّ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ } قَالَ : الْخَوْفُ : خَوْفُ الْعَدُوِّ وَالْجُوعُ : جُوعُ شَهْرِ رَمَضَانَ وَنَقْصٌ مِنْ الْأَمْوَالِ : الزَّكَوَاتُ وَالْأَنْفُسُ : الْأَمْرَاضُ , وَالثَّمَرَاتُ : الصَّدَقَاتُ , وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ عَلَى أَدَائِهَا .
( أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ ) أَخْبَرَنِي , أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ الْحَافِظُ الإستراباذي قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ مُحَمَّدَ بْنَ عَقِيلٍ الْفِرْيَابِيَّ , يَقُولُ : قَالَ الْمُزَنِيّ وَالرَّبِيعُ : كُنَّا يَوْمًا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ , إذْ جَاءَ شَيْخٌ , فَقَالَ لَهُ أَسْأَلُ ؟
قَالَ الشَّافِعِيُّ : سَلْ . قَالَ أَيْشٍ الْحُجَّةُ فِي دِينِ اللَّهِ ؟ فَ
قَالَ الشَّافِعِيُّ : كِتَابُ اللَّهِ قَالَ : وَمَاذَا ؟ قَالَ : سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : وَمَاذَا ؟ قَالَ : اتِّفَاقُ الْأُمَّةِ . قَالَ : وَمِنْ أَيْنَ قُلْتَ اتِّفَاقَ الْأُمَّةِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ؟ , فَتَدَبَّرَ الشَّافِعِيُّ ( رحمه الله ) سَاعَةً . فَقَالَ الشَّيْخُ أَجَّلْتُكَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَتَغَيَّرَ لَوْنُ الشَّافِعِيِّ , ثُمَّ إنَّهُ ذَهَبَ , فَلَمْ يَخْرُجْ أَيَّامًا . قَالَ : فَخَرَجَ مِنْ الْبَيْتِ [ فِي ] الْيَوْمِ الثَّالِثِ , لَمْ يَكُنْ بِأَسْرَعَ أَنْ جَاءَ الشَّيْخُ فَسَلَّمَ , فَجَلَسَ , فَقَالَ : حَاجَتِي ؟ فَ
قَالَ الشَّافِعِيُّ ( رحمه الله ) : نَعَمْ , أَعُوذ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ بسم الله الرحمن الرحيم قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } لَا يُصْلِيهِ جَهَنَّمَ عَلَى خِلَافِ [ سَبِيلِ ] الْمُؤْمِنِينَ , إلَّا وَهُوَ فَرْضٌ قَالَ : فَقَالَ : صَدَقْتَ وَقَامَ وَذَهَبَ .
قَالَ الشَّافِعِيُّ : قَرَأْتُ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ حَتَّى وَقَفْتُ عَلَيْهِ وَهَذِهِ الْحِكَايَةُ أَبْسَطُ مِنْ هَذِهِ نَقَلْتُهَا فِي كِتَابِ الْمَدْخَلِ .
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا مُحَمَّدٍ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَارِثِ , يَقُولُ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ الضَّحَّاكِ ( الْمَعْرُوفَ بِابْنِ بَحْرٍ ) يَقُولُ : سَمِعْتُ إسْمَاعِيلَ بْنَ يَحْيَى الْمُزَنِيّ , يَقُولُ : سَمِعْتُ ابْنَ هَرَمٍ الْقُرَشِيَّ يَقُولُ : سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : { كَلًّا إنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ } قَالَ : فَلَمَّا حَجَبَهُمْ فِي السَّخَطِ : كَانَ فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ يَرَوْنَهُ فِي الرِّضَا .
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ حَيَّانَ الْقَاضِي أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زِيَادٍ : قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو يَحْيَى السَّاجِيُّ ( أَوْ فِيمَا أَجَازَ لِي مُشَافَهَةً ) قَالَ : ثَنَا الرَّبِيعُ , قَالَ سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ : فِي كِتَابِ اللَّهِ ( عَزَّ وَجَلَّ ) الْمَشِيئَةُ لَهُ دُونَ خَلْقِهِ وَالْمَشِيئَةُ إرَادَةُ اللَّهِ . يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَمَا تَشَاءُونَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } فَأَعْلَمَ خَلْقَهُ أَنَّ الْمَشِيئَةَ لَهُ .
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ , أَخْبَرَنِي أَبُو أَحْمَدَ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ أَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَنْظَلِيُّ نَا , أَبُو عَبْدِ الْمَلِكِ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْمَيْمُونِيُّ , حَدَّثَنِي أَبُو عُثْمَانَ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إدْرِيسَ الشَّافِعِيُّ , قَالَ : سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ لَيْلَةً لِلْحُمَيْدِيِّ : مَا يُحَجُّ عَلَيْهِمْ ( يَعْنِي عَلَى أَهْلِ الْإِرْجَاءِ ) بِآيَةٍ أَحَجُّ مِنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } قَرَأْتُ فِي كِتَابِ أَبِي الْحَسَنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الْقَاضِي فِيمَا أَخْبَرَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ النَّضْرِ أَنَا ابْنُ الْحَكَمِ قَالَ سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : { وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } . قَالَ : مَعْنَاهُ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ فِي الْعِبْرَةِ عِنْدَكُمْ لَمَّا كَانَ يَقُولُ لِلشَّيْءِ كُنْ , فَيَخْرُجُ مُفَصَّلًا بِعَيْنَيْهِ وَأُذُنَيْهِ وَسَمْعِهِ وَمَفَاصِلِهِ , وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِيهِ مِنْ الْعُرُوقِ فَهَذَا فِي الْعِبْرَةِ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يَقُولَ لِشَيْءٍ قَدْ كَانَ : عُدْ إلَى مَا كُنْتَ قَالَ : فَهُوَ إنَّمَا هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ فِي الْعِبْرَةِ عِنْدَكُمْ , لَيْسَ أَنَّ شَيْئًا يَعْظُمُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ .
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ أَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ أَنَا الشَّافِعِيُّ أَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ { : أَعْظَمُ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا , فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ } .
قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } إلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { بِهَا كَافِرِينَ } قَالَ : كَانَتْ الْمَسَائِلُ فِيمَا لَمْ يَنْزِلْ إذَا كَانَ الْوَحْيُ يَنْزِلُ مَكْرُوهَةً لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ , ثُمَّ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَغَيْرِهِ مِمَّا فِي مَعْنَاهُ . وَمَعْنَى كَرَاهَةِ ذَلِكَ أَنْ يَسْأَلُوا عَمَّا لَمْ يُحَرَّمْ فَإِنْ حَرَّمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ , أَوْ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم حُرِّمَ أَبَدًا , إلَّا أَنْ يَنْسَخَ اللَّهُ تَحْرِيمَهُ فِي كِتَابِهِ , أَوْ يُنْسَخَ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ سُنَّةً بِسُنَّةٍ .
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ فَنْجَوَيْهِ بِالدَّامِغَانِ نا الْفَضْلُ بْنُ الْفَضْلِ الْكِنْدِيُّ , ثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى السَّاجِيُّ قَالَ : سَمِعْتُ ( أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ابْنَ أَخِي ابْنِ وَهْبٍ ) يَقُولُ : سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ الْأُمَّةُ عَلَى ثَلَاثَةِ وُجُوهٍ : قوله تعالى : { إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ } ; قَالَ عَلَى دِينٍ . وقوله تعالى : { وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ } , قَالَ : بَعْدَ زَمَانٍ وقوله تعالى : { إنَّ إبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ } ; قَالَ مُعَلِّمًا .
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ , حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَيُّوبَ الْفَارِسِيُّ الْمُفَسِّرُ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحِ بْنِ الْحَسَنِ الْبُسْتَانِيُّ بِشِيرَازَ نا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْمُرَادِيُّ نا مُحَمَّدُ بْنُ إدْرِيسَ الشَّافِعِيُّ ( رحمه الله ) أَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَرْجَانَةَ : قَالَ عِكْرِمَةُ لَابْنِ عَبَّاسٍ : إنَّ ابْنَ عُمَرَ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ : { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ } , فَبَكَى , ثُمَّ قَالَ : وَاَللَّهُ لَئِنْ أَخَذَنَا اللَّهُ بِهَا لَنَهْلِكَنَّ . فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ ; قَدْ وَجَدَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهَا حِينَ نَزَلَتْ مَا وَجَدَ , فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ; فَنَزَلَتْ : { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا } الْآيَةُ مِنْ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَكَانَ حَدِيثُ النَّفْسِ مِمَّا لَا يَمْلِكُهُ أَحَدٌ وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَحَدٌ .